الريـع
الـثقافـي والمدرسة الإصلاحية
من المعلوم أن
العالم العربي والإسلامي ، كان يرد على التحديات ، بما في جعبته من أفكار ورثها ،
فهي لا تسمح بالتعديل ، ولا التسوية ، ولا بالإضافة ، إستعارة أو إبداعا ، وما تحت
يده من سلاح متواضع إشتراه ، أو أخذه من العدو ، بحيلة من الحيل ، أو إعانة من
قريب شقيق ، أو بعيد له غرض من الأغراض ، قد يكون فيه للإيديولوجيا الأولوية ، هذا
فيما بعد .
العمدة في رفع هذا التحدي ، أو قهر العدو ودحره ، الإيديولوجيا
، واليوتوبيا ، والمخيال ، أو حضور الماضي الزاهر ، بكل زخمه ورموزه ، إنتصارا به ،
وبزمنيته ، وكم كانت هذه البنية التحتية ، بعكس ما تقول الماركسية _ ثقيلة ومتحكمة
وساحقة _ أخشى أن أقول : أن الجانب السيكولوجي فيها ينوب عن العقل ، واللاوعي فيها
يسبق الوعي ويقوده ، والتقليد فيها يقتل التجريب الفكري ، وينمط التجربة العملية ،
أو أن حكايات الأجداد أحرى بأن تتبع ، وهم أولى بنا من أنفسنا ، لاغرابة في هذا ،
ولعل أكثر الأمم ليست بمنجاة عنه ، ولامحصنة بعدم الإصابة به ، فالأمم لما تودع
مواقعها الممتازة ، أو تنقطع عن مصادر إلهامها ، وبؤر تفجرها ، وقدرتها على
المغامرة ، والإصرار على حماية بيضتها ، وإنما الغرابة كل الغرابة ، في أن تستنيم
الى الماضي ، أو تكتفي بكنوزه ، وتستمرئ العيش على فهم وإنجاز الآخرين ، حتى ولو
كانوا أجدادا ، تنسى نفسها .
ربما سوط الإستعمار ، ولسع التخلف ، ووجدان الحاجة الى
إثبات الذات ، وإنفتاح النخب على الغرب ، والسفر إليه لطلب العلم ، وما يتبع ذلك
ويعقبه من إحتكاك ، وإطلاع على أحوال القوم ، وعلى مدنيتهم وحضارتهم، حرضهم على
تلقف فكرة التقدم ، خاصة وأن ما رأوه ولمسوه كان مبهرا ، وكان مثيرا ، وكان باعثا
لأسئلة شائكة ، وعلامات إستفهام حرجة ، هذه الأسئلة ، وهذه علامات الإستفهام ، تمحورت
حول محل النهضة ، أو مشروع بعثها ، لم يستقم في أذهان رجال النهضة ، ومفكريها ،
ورجال الدين ، أن يخذلنا هذا التراث الواسع ، وهذا الإحتياطي من التجربة والخبرة ،
فيما نحن في أمس الحاجة إليه ، أو نحن أحوج ما نكون إلى بعثه وتفعيله ، وفي نفس
الوقت لم يخطئ نظرهم ، ولم تخنهم رؤيتهم ، في وجدان ما عند الآخر ، مما يثمن ويصح
الأخذ به ، فطفقوا يأخذون من المفاهيم والمصطلحات والمؤسسات والنظم ، بحسب ما
يقابلها ويوائمها بتقديرهم ، في منظوماتهم العقلية والروحية والرمزية ، وهو في
أكثر الأحيان تعسف أو إخفاء وحجب لشق أو هوة ، بين المنظومات والسياقات ، وربما
جفاء بين المنقول والمنقول إليه ، ولكنه على كل تخفف نسبي من الريع الثقافي ، أو
المدرسانية التي كرست منذ المدرسة النظامية ، فعلقت الإبداع الى أجل غير مسمى ، ولانقول
أماتته ، ورسمت مذاهب للتقليد الفقهي معدودة ، ومنحتها جواز سفر ، خلعت عليها
العصمة ، أو قريب من ذلك ؟! ، وكأن النص المقدس « القرآن الكريم» و «الحديث الشريف»، إستنفدت إمكانياته ،
ونفدت طاقته على العطاء والإلهام ، والتبصرة والتنوير ، أو لا حاجة إلى ذلك لأن
الحوادث والوقائع وصلت الى الإنهاك ، أو لم يعد بها نفس لمواصلة التجدد ، فأخذت
تتكرر ، أو تكر سبحتها عود على بدء .
هل وفق رجال الإصلاح .......؟ ،
الى أي مدى قد وفقوا ........؟ ، لاشك أن خيارهم كان موفق ، وكان ممرا إجباريا ، وكان
متطلبا على جهة الحتم ، جربوا تفكيرهم في النهضة ، وحصروا مهمتهم فيها ، وجهدوا في
أن يكون الوعي بها نافذا وضاغطا وواعدا ، وذلك لأن جوهر النهضة ليس شيئ آخر سوى
المشاركة الإيجابية ، المادية والروحية ، في الإنجازات الحضارية ، وفي المحصلة فإن
الوعي هو الشعور العميق بالوضعية التاريخية غير اللائقة ، وبالعجز والقصور عن
إلتقاط العناصر التي مازات تتمتع بالحياة ، في الحقل الثقافي الأصلي ، أو الآصالي
، ولم يفلت الواقع أو بالأحرى قطاع منه من يدها بعد ، ولم تندفع للإنكباب على
مفردات الواقع ، أو مشخصاته الموجودة في حالتها البكر ، أو التي غزته ، وإندكت في
جسمه ، بمعنى أنها بقت خارج منطقة الوعي ، أو أن الواقع إستعارها لعوز وفاقة
وظيفية .
إذن من التساهل ، الذي لايسمح به
، أو العذر الذي يرد على صاحبه ، أن نمر بهذه المدرسة مرور الكرام ، فلا نعتبر
إجتهادها ، حد فاصل بين مرحلتين ، وأنه أي هذا الإجتهاد ، كان تقديريا ، ونقديا
الى مدى ما ، وأنه كان محرر من المنطق القرسطي ، ومن إنحطاط ذلك الواقع ، أو من
الإتكالية ، والتفسير الخرافي للحياة ، والتأويل الميثيولوجي للدين ، وبالرغم مما
وجه من نقد للمدرسة الإصلاحية ، كإنتقائيتها ، وتوفيقيتها ، وهشاشة إرتباطاتها
بقوى إجتماعية محددة ، لها مصلحة في التغيير ، ولها ثقل إجتماعي ، ووزن إقتصادي .
أو أن ذلك كان متعذر عليها ،
وليس بمقدورها التفكير فيه ، ولاترجمته إلى نشاط على الأرض ، حافزا ، ومقلبا لتربة
المجتمع ، مثيرا ، ومقلقا ، للذهنيات ، وللمشاعر ، دافعا ومحفزا ، للحراك
الإجتماعي ، لينتظم ويتهيكل ، ثم يستقر في مكان المبادرة التاريخية ، أو يكون رجع
صدى نفس النهضة ، ومفعول قدرتها وإرادتها ، هل هذا الوجه كان مستبعد على جهة
التفكير ، لأن هذا الأفق سقف لم يزل بعيدا ، فضلا عن أن يكون من مشمولات المشروع ،
لأن المعطى الواقعي المادي غير متوفر : _ نظام وطني ، أو قومي ، متمحور حول الذات
، منخرط في بناء الأمة ، مسهم في تشكيل الطبقات ، مدعم ومبلور ومنضج لقوى
إجتاماعية ترتب ساحة للمواطنة ، وحيز لبروز مجتمع مدني ، مخفف وموازن لسلطة الدولة
، ومتنفس في نفس الوقت .
وعليه فإن المدرسة الإصلاحية ،
لم تستدبر الفضاء الوسطوي تماما ، أو بقيت لها فيه قدم ، أين قدمت خدماتها لنظام
إمبراطوري متهالك ، لايملك القابلية لذلك ، سيرته الذاتية محزنة ، وليس فيها من
العناصر مايمكن الإنطلاق منه ، ولافيها من المعنى مايغري بالثقة به .
يمكننا أن نغامر بالقول : أن هذا
الإجتهاد الفكري ، وهذه القراءة المبتكرة للدين في حينها ، وهذا التأويل للتراث ،
لتحيينه ، وجعله معاصرا لنا ، بصرف النظر عن العيوب التي رصدها النقد ، وتحفظ
عليها ، فإن هذه الذخيرة كانت منطلقا لتيارات فكرية متنوعة ، كالتيار الليبيرالي
برموزه المعروفة ، كالعقاد ، وطه حسين ، وأحمد أمين .......، وللتيار اليساري ،
وللتيار الإسلامي ....، والتيارات السياسية ، كالتيار القومي الناصري ، والتيار
البعثي بشقيه ، العراقي والسوري ....
السيد محمد
الفاضل حمادوش
* المقال القادم بعنوان : الصحوة والمقاومة والممانعة