الأربعاء، 21 مارس 2018

الريـع الـثقافـي وتعثـر الإرادة ( II )


الريـع الـثقافـي وتعثـر الإرادة 



 في أعقاب هزيمة تسعمئة وألف وسبعة وستين المدوية ، وفي الأجواء القاتمة التي ألقت بظلالها الباردة على مشاعر القيادات ، والمفكرين ، والنخب ، قبل الجماهير ، وتحت أقدام الشك المسموم ، والقاتل ، الذي شمل الساحات ، وطال كل شيئ ، وأوهن الثقة بما كان إعتقادا راسخا ، وأرخى اليقين بجدية ما حصل من مكاسب ، وما كان وعدا مؤملا ، سارعت الدوائر السياسية للتخفيف من الوطأة ، والتقليل من مفعول الفشل ، لتلافي أثره الوخيم ، فبادرت بضخ مقادير من الأمل ، لرفع الروح المعنوية ، ودفع الجماهير إلى الثبات في المواقع ، والتحصن بالخيارات ، والتماسك ، ولسان حالها يقول : ماحدث ووقع ، مجرد نكبة عابرة ، وليست فجيعة هزيمة كاسحة ، تكسر الإرادة وتخلع الأمل ، وتطال المصير ،  أو هي قدر دفعه ممتنع ، وأن هذا في حياة الأمم دارج ٌومألوف ويتجاوز ، وأن ما رتبه وسببه يستدرك ، وفي خبرة أمتنا العربية والإسلامية من هذا الكثير ، وهي كبوات وعثرات ، إن لم تكسر الظهر تقويه ، وإن أخرت الغلبة أو فوتتها فإلى حين ، وربما هي فرصة سانحة ، ووقت مستقطع ، للمراجعة والنقد ، والتزود بالتعليمات والإرشادات ، لتصحيح الأوضاع ، وتصفية وتطهير الصفوف ، وترميم المؤسسات أو إصلاحها ، وإعادة النظر في الرؤية والمنهج ، والتسيير ، والتفكير في خلق الإنسجام بينهما ، ولابد أن ذلك إما راجع إلى عمى الرؤية ، أو التخبط في التسيير ، لم يتخلف الصحفيون ، والمفكرون ، عن هذا الركب ، ولم يفوتوا هذه السانحة ، فسال حبر وسودت أوراق ، ونشطت عقول ، وإزدحمت أفكار وتزاحمت ، من مشارب شتى ، ومن خلفيات متباينة ومتعاكسة ، ليست بالضرورة متنافسة ، بل هي في أحيان كثيرة أو قليلة ، متحاربة ومتقاتلة ، ما حمل مجلة المصور على المغامرة لخوض السجال _ وهي مجلة قريبة من النظام _ حول النكبة ، فكتبت سلسلة من المقالات بعنوان « الدولة العصرية » ، في العنوان إشارة لماحة ، ربما الى من ساهم في النكسة أو النكبة : الأحادية في الرأي ، والأحادية في القيادة والشمولية ، أو إلى غياب الديمقراطية ، ودولة القانون ، والتبادل على السلطة ، والحريات الفردية والجماعية ، وفي نفس اللحظة إقتحمت الكتابات الفكرية المعاصرة ، أو المحدثة ، غليان الساحة بدون إسئذان ، فإعتلت المنصة ، لا لتذكر وتنبه ، ولا لترشد وتصوب ، بل لتشرح وتفكك ، أو لتقصف بالثقيل ، القلاع البالية والمهترئة ، ولتجرف وتكنس الأنقاض والأطلال من على الأرض ، ليتاح لها البناء والتشييد ، بنمط عصري ، والذين تقلدوا هذه المهمة ، قامات في الفكر العربي المعاصر ، منهم على سبيل المثال عبد الله العروي ، وأمثاله ، منهم من مات (رحمه الله) ، ومنهم من لايزال يرزق بنعمة الحياة ، أطال الله في عمرهم ، وكتابات أخرى، وكتاب آخرين ، حاقدون موتورون ، أعلنوا التشفي صراحة ، وإرتاحوا للهزيمة أيما إرتياح .
كانت الأحداث تترى ، ينقطع النفس في متابعتها ، رفع شعار محو آثار العدوان ، إطلاق حرب الإستنزاف ، التعويل عليها والإصرار على إستمرارها وتعميقها ، وفعلا كان لها ما أريد لها ، أرهقت العدو الإسرائيلي ، وأنهكته ، خاصة وأنه يعاني من شح العنصر البشري ، ولا يتكئ على عمق يضمن له التحمل ، ويرفده بالزاد الإستراتيجي ، والتاكتيكي ، والعجيب أن حرب الإستنزاف هذه ، لم تزل تحجب إلى الآن ، ويحرص على أن تبقى في العتمة ، لسبب رئيس ، أو لحاجة في نفس يعقوب : لإلحاق الإدانة بالرئيس جمال عبد الناصر ، ولهمز الدولة الوطنية ، ومشروع القومية العربية ، ومن وراء ذلك خنق الفكرة وقتللها ، بصورة مؤبدة ، ومصادرة نخبها ، وهذا ليس صادم ، ولامحير ، ولامتعجب منه ، طالما أن محيطها ، أو بيئتها الأكبر كانت متضايقة ، ومنزعجة ، ومتربصة ، وترى أي هذه البيئة أن مصيرها وأمنها مهدد إذا بقيت مكتوفة الأيدي ،  _وحلف بغداد شاهد على ذلك _ ، وأن رعي مصالح الكبار ، حصن وكهف لعروشها ، يلزم أن لا تمس ، وأن لايساوم عليها ، والحال هذه ، جاء موت عبد الناصر ، كالصاعقة ، ليسدل الستار على فترة نبض الحرية والإستقلال ، وحركة التنمية ، والتصنيع ، وأشياء أخرى ...... ، ولم تمض مدة حتى جاءت ثورة أكتوبر ، بقيادة السادات لتحقق نصرا مع سورية الأسد ، وجزائر بومدين ...... ، تنفس الناس الصعداء ، وهللوا ، وإستشعروا عودة الكرامة الضائعة ، لكن هذا النصر أبى أن يبقى ، ورفض أن يستقر ، وكأنه كان يبشر ، بملاحم ثورات الربيع العربي ، أو ينذر بشؤمها .
لم يلبث السادات أن أطلق شعار (دولة العلم والإيمان) ، في الشعار نية مبيتة ، إذا قرأناه سيميائيا ، بكل قحة ووقاحة ، يذهب السادات الى صلح منفردا مع إسرائيل ، مسقطا كل الحواجز : الوجودية ، والقومية ، والوطنية ، والدينية ، مستبحا العرض ، هاتكا عرف التعامل مع العدو كعدو ، فما بالك بعدو ذو خصائص معينة ومكر .
المهم أن مصر إختطفت ، ونقلت إلى مكان آخر ، أو مقابل ، ثم قلمت و شذبت ، ودجنت ، طبعا مصر كنظام ، ورجال أعمال ، وصحفيين وكتاب ، لضمائرهم دخل ، وبعقولهم دخن ، حتى ينفذ النظام إستراتيجيته بإحكام ، ويهيئ لرؤيته القبول والترحاب ، على الأقل الى حين ، وهب ، أو تصدق بحريات مدغولة ، ومن بالعفو على تيارات ، وجمعيات ، كانت محضورة ، ومناوئة للنظام ، وفي حالة صدام أو توتر دائم معه ، كالليبراليين ، والإسلاميين (الإخوان)، فأفرج هؤلاء عن نشاطهم الدعوي والتجميعي والإعلامي ، ولم يدر بخلد الناشطين ، أن النشاط مؤطر من الخلف ، ومستغل ، وموظف ، من إدارة سياسية ، حفرت له مجرى ، وعينت له قناة يصب فيها ، لايهمنا التيار الليبيرالي ، لأنه مريض ، ومغترب ، ومنبهر ، ويعاني من عقدة الإغتراب وعدمي ، يحسب أن الإرتماء في حضن الثقافة الغربية ، وقيمها ، والتمحل بإيجاد صلة جغرافية ، أو تاريخية ، وربما صلة رحم ، تربطه بما يرفعه عن الدونية ، وينتشله من صور البداوة ، والتخلف ، و «الأهلية» ، توهما وتخيلا ، ويحول بينه ، وبين جغرافيا العالم الثالث ، أو يلغي إنتماءه العربي ، أو للخيمة والجمل والصحراء ، ويفكك مركبه الإسلامي ، ولقد حكى لنا ، أو ذكرنا الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل ، في إحدى طلعاته في فضائية الجزيرة ، من خلال السلسلة الطويلة من المداخلات التي بثت في هذه المحطة التلفزيونية : أن أدباء ، ومفكرين كبار ، يصنعون الرأي ، ويخلعون المعنى على الحياة العربية ، يستقطبون الإهتمامات ، يترجمون الإنشغالات ، ويعيدون تصنيعها بتفكيرهم ، ومنطقهم ، أو بأسلوبهم ، وتجربتهم الشعورية ، في أشكال وعي قابلة للإستهلاك ، كالمقالة الفلسفية والفكرية ، وحتى الصحفية ، وأيضا الرواية ، والأقصوصة ، أو القصة القصيرة ، واللوحات الفنية ، التي تقول فكرة ، أو تجود بخاطرة وإنطباع ، وتعكس إحساسا وشعورا ، إن هؤلاء لما ينتكسون ويسقطون ، أو يتعثرون ويتكبكبون على قارعة الطريق ، يفتحون ثغرة في حصن الأمة ، لاتسد ، لأنهم يجسدون رمزا آوى الى المخيلة ، وإتخذها مسكنا دائما ، هؤلاء المفكرون والكتاب ، لما إلتقوا بهيكل ، قالو له عجبا ، أوصوه بأن يكلم عبد الناصر ، ويقول له : لاشأن لنا بالعرب وفلسطين ، نحن ننتمي الى الحضارة المتوسطية ؟! ...........

السيد محمد الفاضل حمادوش


* المقال القادم بعنوان : الصحوة والمقاومة والممانعة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الريـع الـثقافـي والمدرسة الإصلاحية ( III )

الريـع الـثقافـي والمدرسة الإصلاحية   من المعلوم أن العالم العربي والإسلامي ، كان يرد على التحديات ، بما في جعبته من أفكا...