هل
يمكن أن نتكلم عن ريع ثقافي
إن حضارة ما
أو ( ثقافتها ) لما تستأذن في الإنصراف ، توصد أبوابها في وجه الجديد ، وتقرر دفع
التغير ، ودحر التغيير ، تطوي الطموح أو تسحبه من أجندتها ، وذللك في زعم نخبها ،
أو قادة الرأي فيها ، أن مسيرتها وصلت إلى التمام ، وأوضاعها وحالاتها أشرفت على
الكمال ، وأرصدتها من الفكر والثقافة ، فاضت ورشحت عن الحاجة ، وحضها من المعنى
وفير ، لامزيد فيه لمستزيد والمآثر والأمجاد التي وفقت لصنعها في الماضي ، وكانت
عزها ، وأغنية فخرها ، ومحل دلها ، وعنوان شخصيتها ، لم ينل منها الزمن ، فهي لم
تزل تتمتع بحضور قوي ، وتأثير كاسح ، ونفوذ مشل للحركة ، معيق للتفكير ، ناف للنقد
، ملغ لحسه ، فلم يستفزها التفاوت التاريخي ، ولم يهمزها الصراع المحموم ، ولا
التحدي الهائل ، لم تستشعر التناقضات التي تخرب كيانها الداخلي ، وتمزق أوصالها ،
ولم يلتفت عقلها ، أو قواها النبيلة الى سجال الفكر ، وتنافس الثقافات ، ولم يصخ
الى جدل الواقع ، تشرنقت ولم تدر أنها لم تعد تتحكم في الواقع وتضبطه ، فهي تلهث
وراءه ، أو تسحب من خلفه ، والحال هذه أين لها من إحتجاز بقعة آمنة في هذا الواقع المحدودب
، أو المسنن ، والهائج ؟ ، وهل يستوي لها الواقع ويطاوعها بالتكيف المخفف للكلفة
على الأقل ؟!، وهل تطمع أو تمد عيناها ، الى أكثر من إستقرار متواضع ، ومحتشم ؟! يوفر لها عيش متقشف ، في واقع مهتز ومتموج ،
وحتى هذا العطاء الشحيح ينال بالمن ؟! ويتناول من متعالي متفضل شرس ؟! .
إن فترات
زمنية قد تطول ، وقد تقصر ، تناوبت وتداولت على أمة هذه الحضارة ، فترة ، فترة ،
حضها من كل فترة بحسب إستعدادها وقابليتها ، قد تكون هذه المدة أو البرهة ، باردة
الإستعداد ، منطفئة الحماسة ، منسحبة من ساحة الفعل ، مستدبرة من منصة التفكير ،
أو متبرمة لكل ما فيه مشقة ، تتحاشى الصدارة وتفر من التصدي والمجابهة ، لا تكترث
بالوضوح والصراحة ، ولاتعمد الى التغلغل في تلافيف الفكر ، وشعب الواقع ، أو أن
نخبها غدت تعاف هذا الصنيع ، لتعثر على منابت المشاكل ، والأزمات ، وأسباب كونها وعوامل
تفاقمها ، لعطل ما في طويتها أو في دخيلتها ، شدت إلى الأعراض ، وإنكفأت على السطوح
فهي تنزلق عليها ، التكرار والإجترار أخذا بتلابيبها ، أو بمجامع ثوبها ، والسهولة
والبساطة أقعدتاها، وأسجنتاها في قوقعة ، أحيانا تمر بها تيارات أو تضربها ، فتستفيق
وتنهض وتكسر الجمود والتكلس ، وتنفض الغبار ، وتفرك عيناها ، وتتململ ، وتشرع في
التعرف على نفسها ، تستعيد ماضيها ، وتنشط ذاكرتها ومخيلتها ، تتلمس مواهبها
وملكاتها ، ومقدراتها ، حينئذ تسري فيها الحيوية ، وتدب فيها الحركة ، فتنتعش
دوافعها ، وتشخص محفزاتها ، أين إنداح الأمل وأينع الطموح ، وإنجلت الغيوم عن
الآفاق ، وأضحى المعنى ، قوتا ، ووقودا ، ووشاحا للحركة وللحياة وللوجود ، ولكن
بين مبدأ هذا النشاط وإنتهاؤه أو إنصرافه وإنقضاؤه ، من فرط قصره يكاد يكون رعشة ،
كرعشة الموت ، أو الموات ، إلى ما يرجع هذا ؟ ، أو بما يفسر أو يؤول ؟ لعل أوجه
كثير تبرز أمامنا ، أو تنكشف ، كل وجه يحيل الى صعيد من الصعد ، أو الى حقل من
الحقول ، أو الى عقدة من العقد ، أو كابح من الكوابح .
وعليه فإن حجم الإشكالية وطبيعتها ، لا تسمح عناصرها
بالمعالجة والفهم منفردة فضلا عن الحل ، ولكنها مجتمعة ، أو في وضع تركيبها ،
وحالة نسيجها تطاوع على الفهم والمعالجة ، وتنزع نحو الحل ، لذا لم يكتب لكثير من
الحركات السياسية ، التي استوت أحزابا سياسية من العيار الثقيل ، أو أنظمة في
الحكم تمكنت من إمضاء أجندتها ، والإفراج عن برامجها ، وإطلاق شعارات مغرية وجذابة
، وبناء إيديولوجيا نافذة وغلابة _ لاأقول لم تنجح لكن توقفت في
منتصف الطريق ، أو لم تنجز كل ما وعدت_
وهنا لم يكن من شأن المجتمعات ، وغالبية
الجماهير، غير الإستجابة والتلبية والمباركة ، والإندراج في التجييش والتحشيد ،
ومحض التأييد للقيادة ، والإلتفاف حولها ، من غير أن تطلب حسابا من السلطة ، أو
تحاسبها على شرعيتها ، صحيح أن المشروع إستثناي وواعد ، وأن مشروعيته جزء من
ماهيته ، أو هو لحمته وسداه : التنمية ، الصحة ، التعليم ، العدالة ، المساواة ، تكافؤ
الفرص ، تحرير فلسطين ، عدم الإنحياز أو الحياد الإيجابي ، مساندة حركات التحرر ، الوقوف
بالمرصاد ضد الإستغلال ، والإحتكار ونهب ثروات الشعوب ومقدراتها، وإعطاء أهمية
قصوى لإستقلال القرار السياسي ، وتوسل التكافؤ والندية في علاقاتها أو صميم
إرتباطاتها ، لا شك أن النجاح حالفها نسبيا في هذه الأمور ، إلا أن ما يؤخذ عليها
أو يوجه لها من ملاحظات أنها تنكبت الصواب في مراعاة حساسية الجمهور ، العقائدية،
وأخطأت في التعامل مع مخيلته ، والآداب والفنون شاهدة على ذلك ، وخاصة القصة
والسنما ، في الوقت الذي كانت مقتلها أو المؤذن بإندثارها، كانت في نفس الوقت قوتها الناعمة ، وسلاحها
الحريري ، الذي مكن لنفاذها ، في قلوب جماهير الأمة العربية والإسلامية .....
السيد محمد الفاضل حمادوش
·
المقال
القادم بعنوان : الصحوة والمقاومة والممانعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق