الأحد، 18 مارس 2018

هل يمكن أن نتكلم عن ريع ثقافي ( I )


هل يمكن أن نتكلم عن ريع ثقافي



 إن حضارة ما أو ( ثقافتها ) لما تستأذن في الإنصراف ، توصد أبوابها في وجه الجديد ، وتقرر دفع التغير ، ودحر التغيير ، تطوي الطموح أو تسحبه من أجندتها ، وذللك في زعم نخبها ، أو قادة الرأي فيها ، أن مسيرتها وصلت إلى التمام ، وأوضاعها وحالاتها أشرفت على الكمال ، وأرصدتها من الفكر والثقافة ، فاضت ورشحت عن الحاجة ، وحضها من المعنى وفير ، لامزيد فيه لمستزيد والمآثر والأمجاد التي وفقت لصنعها في الماضي ، وكانت عزها ، وأغنية فخرها ، ومحل دلها ، وعنوان شخصيتها ، لم ينل منها الزمن ، فهي لم تزل تتمتع بحضور قوي ، وتأثير كاسح ، ونفوذ مشل للحركة ، معيق للتفكير ، ناف للنقد ، ملغ لحسه ، فلم يستفزها التفاوت التاريخي ، ولم يهمزها الصراع المحموم ، ولا التحدي الهائل ، لم تستشعر التناقضات التي تخرب كيانها الداخلي ، وتمزق أوصالها ، ولم يلتفت عقلها ، أو قواها النبيلة الى سجال الفكر ، وتنافس الثقافات ، ولم يصخ الى جدل الواقع ، تشرنقت ولم تدر أنها لم تعد تتحكم في الواقع وتضبطه ، فهي تلهث وراءه ، أو تسحب من خلفه ، والحال هذه أين لها من إحتجاز بقعة آمنة في هذا الواقع المحدودب ، أو المسنن ، والهائج ؟ ، وهل يستوي لها الواقع ويطاوعها بالتكيف المخفف للكلفة على الأقل ؟!، وهل تطمع أو تمد عيناها ، الى أكثر من إستقرار متواضع ، ومحتشم  ؟! يوفر لها عيش متقشف ، في واقع مهتز ومتموج ، وحتى هذا العطاء الشحيح ينال بالمن ؟! ويتناول من متعالي متفضل شرس ؟! .
إن  فترات زمنية قد تطول ، وقد تقصر ، تناوبت وتداولت على أمة هذه الحضارة ، فترة ، فترة ، حضها من كل فترة بحسب إستعدادها وقابليتها ، قد تكون هذه المدة أو البرهة ، باردة الإستعداد ، منطفئة الحماسة ، منسحبة من ساحة الفعل ، مستدبرة من منصة التفكير ، أو متبرمة لكل ما فيه مشقة ، تتحاشى الصدارة وتفر من التصدي والمجابهة ، لا تكترث بالوضوح والصراحة ، ولاتعمد الى التغلغل في تلافيف الفكر ، وشعب الواقع ، أو أن نخبها غدت تعاف هذا الصنيع ، لتعثر على منابت المشاكل ، والأزمات ، وأسباب كونها وعوامل تفاقمها ، لعطل ما في طويتها أو في دخيلتها ، شدت إلى الأعراض ، وإنكفأت على السطوح فهي تنزلق عليها ، التكرار والإجترار أخذا بتلابيبها ، أو بمجامع ثوبها ، والسهولة والبساطة أقعدتاها، وأسجنتاها في قوقعة ، أحيانا تمر بها تيارات أو تضربها ، فتستفيق وتنهض وتكسر الجمود والتكلس ، وتنفض الغبار ، وتفرك عيناها ، وتتململ ، وتشرع في التعرف على نفسها ، تستعيد ماضيها ، وتنشط ذاكرتها ومخيلتها ، تتلمس مواهبها وملكاتها ، ومقدراتها ، حينئذ تسري فيها الحيوية ، وتدب فيها الحركة ، فتنتعش دوافعها ، وتشخص محفزاتها ، أين إنداح الأمل وأينع الطموح ، وإنجلت الغيوم عن الآفاق ، وأضحى المعنى ، قوتا ، ووقودا ، ووشاحا للحركة وللحياة وللوجود ، ولكن بين مبدأ هذا النشاط وإنتهاؤه أو إنصرافه وإنقضاؤه ، من فرط قصره يكاد يكون رعشة ، كرعشة الموت ، أو الموات ، إلى ما يرجع هذا ؟ ، أو بما يفسر أو يؤول ؟ لعل أوجه كثير تبرز أمامنا ، أو تنكشف ، كل وجه يحيل الى صعيد من الصعد ، أو الى حقل من الحقول ، أو الى عقدة من العقد ، أو كابح من الكوابح .
وعليه فإن حجم الإشكالية وطبيعتها ، لا تسمح عناصرها بالمعالجة والفهم منفردة فضلا عن الحل ، ولكنها مجتمعة ، أو في وضع تركيبها ، وحالة نسيجها تطاوع على الفهم والمعالجة ، وتنزع نحو الحل ، لذا لم يكتب لكثير من الحركات السياسية ، التي استوت أحزابا سياسية من العيار الثقيل ، أو أنظمة في الحكم تمكنت من إمضاء أجندتها ، والإفراج عن برامجها ، وإطلاق شعارات مغرية وجذابة ، وبناء إيديولوجيا نافذة وغلابة _  لاأقول لم تنجح لكن توقفت في منتصف الطريق ، أو لم تنجز كل ما وعدت_   وهنا لم يكن من شأن المجتمعات ، وغالبية الجماهير، غير الإستجابة والتلبية والمباركة ، والإندراج في التجييش والتحشيد ، ومحض التأييد للقيادة ، والإلتفاف حولها ، من غير أن تطلب حسابا من السلطة ، أو تحاسبها على شرعيتها ، صحيح أن المشروع إستثناي وواعد ، وأن مشروعيته جزء من ماهيته ، أو هو لحمته وسداه : التنمية ، الصحة ، التعليم ، العدالة ، المساواة ، تكافؤ الفرص ، تحرير فلسطين ، عدم الإنحياز أو الحياد الإيجابي ، مساندة حركات التحرر ، الوقوف بالمرصاد ضد الإستغلال ، والإحتكار ونهب ثروات الشعوب ومقدراتها، وإعطاء أهمية قصوى لإستقلال القرار السياسي ، وتوسل التكافؤ والندية في علاقاتها أو صميم إرتباطاتها ، لا شك أن النجاح حالفها نسبيا في هذه الأمور ، إلا أن ما يؤخذ عليها أو يوجه لها من ملاحظات أنها تنكبت الصواب في مراعاة حساسية الجمهور ، العقائدية، وأخطأت في التعامل مع مخيلته ، والآداب والفنون شاهدة على ذلك ، وخاصة القصة والسنما ، في الوقت الذي كانت مقتلها أو المؤذن بإندثارها،  كانت في نفس الوقت قوتها الناعمة ، وسلاحها الحريري ، الذي مكن لنفاذها ، في قلوب جماهير الأمة العربية والإسلامية .....


السيد محمد الفاضل حمادوش 

·       المقال القادم بعنوان : الصحوة والمقاومة والممانعة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الريـع الـثقافـي والمدرسة الإصلاحية ( III )

الريـع الـثقافـي والمدرسة الإصلاحية   من المعلوم أن العالم العربي والإسلامي ، كان يرد على التحديات ، بما في جعبته من أفكا...