الريـع
الـثقافـي وتعثـر الإرادة
في أعقاب
هزيمة تسعمئة وألف وسبعة وستين المدوية ، وفي الأجواء القاتمة التي ألقت بظلالها
الباردة على مشاعر القيادات ، والمفكرين ، والنخب ، قبل الجماهير ، وتحت أقدام
الشك المسموم ، والقاتل ، الذي شمل الساحات ، وطال كل شيئ ، وأوهن الثقة بما كان
إعتقادا راسخا ، وأرخى اليقين بجدية ما حصل من مكاسب ، وما كان وعدا مؤملا ، سارعت
الدوائر السياسية للتخفيف من الوطأة ، والتقليل من مفعول الفشل ، لتلافي أثره
الوخيم ، فبادرت بضخ مقادير من الأمل ، لرفع الروح المعنوية ، ودفع الجماهير إلى
الثبات في المواقع ، والتحصن بالخيارات ، والتماسك ، ولسان حالها يقول : ماحدث
ووقع ، مجرد نكبة عابرة ، وليست فجيعة هزيمة كاسحة ، تكسر الإرادة وتخلع الأمل ،
وتطال المصير ، أو هي قدر دفعه ممتنع ،
وأن هذا في حياة الأمم دارج ٌومألوف ويتجاوز ، وأن ما رتبه وسببه يستدرك ، وفي
خبرة أمتنا العربية والإسلامية من هذا الكثير ، وهي كبوات وعثرات ، إن لم تكسر
الظهر تقويه ، وإن أخرت الغلبة أو فوتتها فإلى حين ، وربما هي فرصة سانحة ، ووقت
مستقطع ، للمراجعة والنقد ، والتزود بالتعليمات والإرشادات ، لتصحيح الأوضاع ،
وتصفية وتطهير الصفوف ، وترميم المؤسسات أو إصلاحها ، وإعادة النظر في الرؤية
والمنهج ، والتسيير ، والتفكير في خلق الإنسجام بينهما ، ولابد أن ذلك إما راجع
إلى عمى الرؤية ، أو التخبط في التسيير ، لم يتخلف الصحفيون ، والمفكرون ، عن هذا
الركب ، ولم يفوتوا هذه السانحة ، فسال حبر وسودت أوراق ، ونشطت عقول ، وإزدحمت
أفكار وتزاحمت ، من مشارب شتى ، ومن خلفيات متباينة ومتعاكسة ، ليست بالضرورة
متنافسة ، بل هي في أحيان كثيرة أو قليلة ، متحاربة ومتقاتلة ، ما حمل مجلة المصور
على المغامرة لخوض السجال _
وهي مجلة قريبة من النظام _ حول النكبة ، فكتبت سلسلة من المقالات بعنوان « الدولة العصرية » ، في العنوان إشارة لماحة ، ربما
الى من ساهم في النكسة أو النكبة : الأحادية في الرأي ، والأحادية في القيادة
والشمولية ، أو إلى غياب الديمقراطية ، ودولة القانون ، والتبادل على السلطة ،
والحريات الفردية والجماعية ، وفي نفس اللحظة إقتحمت الكتابات الفكرية المعاصرة ،
أو المحدثة ، غليان الساحة بدون إسئذان ، فإعتلت المنصة ، لا لتذكر وتنبه ، ولا
لترشد وتصوب ، بل لتشرح وتفكك ، أو لتقصف بالثقيل ، القلاع البالية والمهترئة ، ولتجرف
وتكنس الأنقاض والأطلال من على الأرض ، ليتاح لها البناء والتشييد ، بنمط عصري ،
والذين تقلدوا هذه المهمة ، قامات في الفكر العربي المعاصر ، منهم على سبيل المثال
عبد الله العروي ، وأمثاله ، منهم من مات (رحمه الله) ، ومنهم من لايزال يرزق
بنعمة الحياة ، أطال الله في عمرهم ، وكتابات أخرى، وكتاب آخرين ، حاقدون موتورون
، أعلنوا التشفي صراحة ، وإرتاحوا للهزيمة أيما إرتياح .
كانت
الأحداث تترى ، ينقطع النفس في متابعتها ، رفع شعار محو آثار العدوان ، إطلاق حرب
الإستنزاف ، التعويل عليها والإصرار على إستمرارها وتعميقها ، وفعلا كان لها ما
أريد لها ، أرهقت العدو الإسرائيلي ، وأنهكته ، خاصة وأنه يعاني من شح العنصر
البشري ، ولا يتكئ على عمق يضمن له التحمل ، ويرفده بالزاد الإستراتيجي ،
والتاكتيكي ، والعجيب أن حرب الإستنزاف هذه ، لم تزل تحجب إلى الآن ، ويحرص على أن
تبقى في العتمة ، لسبب رئيس ، أو لحاجة في نفس يعقوب : لإلحاق الإدانة بالرئيس جمال
عبد الناصر ، ولهمز الدولة الوطنية ، ومشروع القومية العربية ، ومن وراء ذلك خنق
الفكرة وقتللها ، بصورة مؤبدة ، ومصادرة نخبها ، وهذا ليس صادم ، ولامحير ،
ولامتعجب منه ، طالما أن محيطها ، أو بيئتها الأكبر كانت متضايقة ، ومنزعجة ،
ومتربصة ، وترى أي هذه البيئة أن مصيرها وأمنها مهدد إذا بقيت مكتوفة الأيدي ، _وحلف بغداد شاهد على ذلك _ ، وأن رعي مصالح الكبار ، حصن وكهف لعروشها ، يلزم أن لا تمس ، وأن لايساوم
عليها ، والحال هذه ، جاء موت عبد الناصر ، كالصاعقة ، ليسدل الستار على فترة نبض
الحرية والإستقلال ، وحركة التنمية ، والتصنيع ، وأشياء أخرى ...... ، ولم تمض مدة
حتى جاءت ثورة أكتوبر ، بقيادة السادات لتحقق نصرا مع سورية الأسد ، وجزائر بومدين
...... ، تنفس الناس الصعداء ، وهللوا ، وإستشعروا عودة الكرامة الضائعة ، لكن
هذا النصر أبى أن يبقى ، ورفض أن يستقر ، وكأنه كان يبشر ، بملاحم ثورات الربيع
العربي ، أو ينذر بشؤمها .
لم يلبث
السادات أن أطلق شعار (دولة العلم والإيمان) ، في الشعار نية مبيتة ، إذا قرأناه
سيميائيا ، بكل قحة ووقاحة ، يذهب السادات الى صلح منفردا مع إسرائيل ، مسقطا كل
الحواجز : الوجودية ، والقومية ، والوطنية ، والدينية ، مستبحا العرض ، هاتكا عرف
التعامل مع العدو كعدو ، فما بالك بعدو ذو خصائص معينة ومكر .
المهم
أن مصر إختطفت ، ونقلت إلى مكان آخر ، أو مقابل ، ثم قلمت و شذبت ، ودجنت ، طبعا
مصر كنظام ، ورجال أعمال ، وصحفيين وكتاب ، لضمائرهم دخل ، وبعقولهم دخن ، حتى
ينفذ النظام إستراتيجيته بإحكام ، ويهيئ لرؤيته القبول والترحاب ، على الأقل الى
حين ، وهب ، أو تصدق بحريات مدغولة ، ومن بالعفو على تيارات ، وجمعيات ، كانت
محضورة ، ومناوئة للنظام ، وفي حالة صدام أو توتر دائم معه ، كالليبراليين ،
والإسلاميين (الإخوان)، فأفرج هؤلاء عن نشاطهم الدعوي والتجميعي والإعلامي ، ولم
يدر بخلد الناشطين ، أن النشاط مؤطر من الخلف ، ومستغل ، وموظف ، من إدارة سياسية
، حفرت له مجرى ، وعينت له قناة يصب فيها ، لايهمنا التيار الليبيرالي ، لأنه
مريض ، ومغترب ، ومنبهر ، ويعاني من عقدة الإغتراب وعدمي ، يحسب أن الإرتماء في
حضن الثقافة الغربية ، وقيمها ، والتمحل بإيجاد صلة جغرافية ، أو تاريخية ، وربما
صلة رحم ، تربطه بما يرفعه عن الدونية ، وينتشله من صور البداوة ، والتخلف ، و «الأهلية» ، توهما وتخيلا ، ويحول بينه ، وبين جغرافيا العالم
الثالث ، أو يلغي إنتماءه العربي ، أو للخيمة والجمل والصحراء ، ويفكك مركبه
الإسلامي ، ولقد حكى لنا ، أو ذكرنا الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل ، في إحدى
طلعاته في فضائية الجزيرة ، من خلال السلسلة الطويلة من المداخلات التي بثت في هذه
المحطة التلفزيونية : أن أدباء ، ومفكرين كبار ، يصنعون الرأي ، ويخلعون المعنى على
الحياة العربية ، يستقطبون الإهتمامات ، يترجمون الإنشغالات ، ويعيدون تصنيعها
بتفكيرهم ، ومنطقهم ، أو بأسلوبهم ، وتجربتهم الشعورية ، في أشكال وعي قابلة
للإستهلاك ، كالمقالة الفلسفية والفكرية ، وحتى الصحفية ، وأيضا الرواية ،
والأقصوصة ، أو القصة القصيرة ، واللوحات الفنية ، التي تقول فكرة ، أو تجود
بخاطرة وإنطباع ، وتعكس إحساسا وشعورا ، إن هؤلاء لما ينتكسون ويسقطون ، أو
يتعثرون ويتكبكبون على قارعة الطريق ، يفتحون ثغرة في حصن الأمة ، لاتسد ، لأنهم
يجسدون رمزا آوى الى المخيلة ، وإتخذها مسكنا دائما ، هؤلاء المفكرون والكتاب ،
لما إلتقوا بهيكل ، قالو له عجبا ، أوصوه بأن يكلم عبد الناصر ، ويقول له : لاشأن
لنا بالعرب وفلسطين ، نحن ننتمي الى الحضارة المتوسطية ؟! ...........
السيد محمد الفاضل
حمادوش
* المقال القادم بعنوان : الصحوة والمقاومة والممانعة