الأحد، 1 أبريل 2018

الريـع الـثقافـي والمدرسة الإصلاحية ( III )


الريـع الـثقافـي والمدرسة الإصلاحية





 من المعلوم أن العالم العربي والإسلامي ، كان يرد على التحديات ، بما في جعبته من أفكار ورثها ، فهي لا تسمح بالتعديل ، ولا التسوية ، ولا بالإضافة ، إستعارة أو إبداعا ، وما تحت يده من سلاح متواضع إشتراه ، أو أخذه من العدو ، بحيلة من الحيل ، أو إعانة من قريب شقيق ، أو بعيد له غرض من الأغراض ، قد يكون فيه للإيديولوجيا الأولوية ، هذا فيما بعد .
العمدة في رفع هذا التحدي ، أو قهر العدو ودحره ، الإيديولوجيا ، واليوتوبيا ، والمخيال ، أو حضور الماضي الزاهر ، بكل زخمه ورموزه ، إنتصارا به ، وبزمنيته ، وكم كانت هذه البنية التحتية ، بعكس ما تقول الماركسية _ ثقيلة ومتحكمة وساحقة _ أخشى أن أقول : أن الجانب السيكولوجي فيها ينوب عن العقل ، واللاوعي فيها يسبق الوعي ويقوده ، والتقليد فيها يقتل التجريب الفكري ، وينمط التجربة العملية ، أو أن حكايات الأجداد أحرى بأن تتبع ، وهم أولى بنا من أنفسنا ، لاغرابة في هذا ، ولعل أكثر الأمم ليست بمنجاة عنه ، ولامحصنة بعدم الإصابة به ، فالأمم لما تودع مواقعها الممتازة ، أو تنقطع عن مصادر إلهامها ، وبؤر تفجرها ، وقدرتها على المغامرة ، والإصرار على حماية بيضتها ، وإنما الغرابة كل الغرابة ، في أن تستنيم الى الماضي ، أو تكتفي بكنوزه ، وتستمرئ العيش على فهم وإنجاز الآخرين ، حتى ولو كانوا أجدادا ، تنسى نفسها .
ربما سوط الإستعمار ، ولسع التخلف ، ووجدان الحاجة الى إثبات الذات ، وإنفتاح النخب على الغرب ، والسفر إليه لطلب العلم ، وما يتبع ذلك ويعقبه من إحتكاك ، وإطلاع على أحوال القوم ، وعلى مدنيتهم وحضارتهم، حرضهم على تلقف فكرة التقدم ، خاصة وأن ما رأوه ولمسوه كان مبهرا ، وكان مثيرا ، وكان باعثا لأسئلة شائكة ، وعلامات إستفهام حرجة ، هذه الأسئلة ، وهذه علامات الإستفهام ، تمحورت حول محل النهضة ، أو مشروع بعثها ، لم يستقم في أذهان رجال النهضة ، ومفكريها ، ورجال الدين ، أن يخذلنا هذا التراث الواسع ، وهذا الإحتياطي من التجربة والخبرة ، فيما نحن في أمس الحاجة إليه ، أو نحن أحوج ما نكون إلى بعثه وتفعيله ، وفي نفس الوقت لم يخطئ نظرهم ، ولم تخنهم رؤيتهم ، في وجدان ما عند الآخر ، مما يثمن ويصح الأخذ به ، فطفقوا يأخذون من المفاهيم والمصطلحات والمؤسسات والنظم ، بحسب ما يقابلها ويوائمها بتقديرهم ، في منظوماتهم العقلية والروحية والرمزية ، وهو في أكثر الأحيان تعسف أو إخفاء وحجب لشق أو هوة ، بين المنظومات والسياقات ، وربما جفاء بين المنقول والمنقول إليه ، ولكنه على كل تخفف نسبي من الريع الثقافي ، أو المدرسانية التي كرست منذ المدرسة النظامية ، فعلقت الإبداع الى أجل غير مسمى ، ولانقول أماتته ، ورسمت مذاهب للتقليد الفقهي معدودة ، ومنحتها جواز سفر ، خلعت عليها العصمة ، أو قريب من ذلك ؟! ، وكأن النص المقدس « القرآن الكريم» و «الحديث الشريف»، إستنفدت إمكانياته ، ونفدت طاقته على العطاء والإلهام ، والتبصرة والتنوير ، أو لا حاجة إلى ذلك لأن الحوادث والوقائع وصلت الى الإنهاك ، أو لم يعد بها نفس لمواصلة التجدد ، فأخذت تتكرر ، أو تكر سبحتها عود على بدء .
هل وفق رجال الإصلاح .......؟ ، الى أي مدى قد وفقوا ........؟ ، لاشك أن خيارهم كان موفق ، وكان ممرا إجباريا ، وكان متطلبا على جهة الحتم ، جربوا تفكيرهم في النهضة ، وحصروا مهمتهم فيها ، وجهدوا في أن يكون الوعي بها نافذا وضاغطا وواعدا ، وذلك لأن جوهر النهضة ليس شيئ آخر سوى المشاركة الإيجابية ، المادية والروحية ، في الإنجازات الحضارية ، وفي المحصلة فإن الوعي هو الشعور العميق بالوضعية التاريخية غير اللائقة ، وبالعجز والقصور عن إلتقاط العناصر التي مازات تتمتع بالحياة ، في الحقل الثقافي الأصلي ، أو الآصالي ، ولم يفلت الواقع أو بالأحرى قطاع منه من يدها بعد ، ولم تندفع للإنكباب على مفردات الواقع ، أو مشخصاته الموجودة في حالتها البكر ، أو التي غزته ، وإندكت في جسمه ، بمعنى أنها بقت خارج منطقة الوعي ، أو أن الواقع إستعارها لعوز وفاقة وظيفية .
إذن من التساهل ، الذي لايسمح به ، أو العذر الذي يرد على صاحبه ، أن نمر بهذه المدرسة مرور الكرام ، فلا نعتبر إجتهادها ، حد فاصل بين مرحلتين ، وأنه أي هذا الإجتهاد ، كان تقديريا ، ونقديا الى مدى ما ، وأنه كان محرر من المنطق القرسطي ، ومن إنحطاط ذلك الواقع ، أو من الإتكالية ، والتفسير الخرافي للحياة ، والتأويل الميثيولوجي للدين ، وبالرغم مما وجه من نقد للمدرسة الإصلاحية ، كإنتقائيتها ، وتوفيقيتها ، وهشاشة إرتباطاتها بقوى إجتماعية محددة ، لها مصلحة في التغيير ، ولها ثقل إجتماعي ، ووزن إقتصادي .
أو أن ذلك كان متعذر عليها ، وليس بمقدورها التفكير فيه ، ولاترجمته إلى نشاط على الأرض ، حافزا ، ومقلبا لتربة المجتمع ، مثيرا ، ومقلقا ، للذهنيات ، وللمشاعر ، دافعا ومحفزا ، للحراك الإجتماعي ، لينتظم ويتهيكل ، ثم يستقر في مكان المبادرة التاريخية ، أو يكون رجع صدى نفس النهضة ، ومفعول قدرتها وإرادتها ، هل هذا الوجه كان مستبعد على جهة التفكير ، لأن هذا الأفق سقف لم يزل بعيدا ، فضلا عن أن يكون من مشمولات المشروع ، لأن المعطى الواقعي المادي غير متوفر : _ نظام وطني ، أو قومي ، متمحور حول الذات ، منخرط في بناء الأمة ، مسهم في تشكيل الطبقات ، مدعم ومبلور ومنضج لقوى إجتاماعية ترتب ساحة للمواطنة ، وحيز لبروز مجتمع مدني ، مخفف وموازن لسلطة الدولة ، ومتنفس في نفس الوقت .
وعليه فإن المدرسة الإصلاحية ، لم تستدبر الفضاء الوسطوي تماما ، أو بقيت لها فيه قدم ، أين قدمت خدماتها لنظام إمبراطوري متهالك ، لايملك القابلية لذلك ، سيرته الذاتية محزنة ، وليس فيها من العناصر مايمكن الإنطلاق منه ، ولافيها من المعنى مايغري بالثقة به .
يمكننا أن نغامر بالقول : أن هذا الإجتهاد الفكري ، وهذه القراءة المبتكرة للدين في حينها ، وهذا التأويل للتراث ، لتحيينه ، وجعله معاصرا لنا ، بصرف النظر عن العيوب التي رصدها النقد ، وتحفظ عليها ، فإن هذه الذخيرة كانت منطلقا لتيارات فكرية متنوعة ، كالتيار الليبيرالي برموزه المعروفة ، كالعقاد ، وطه حسين ، وأحمد أمين .......، وللتيار اليساري ، وللتيار الإسلامي ....، والتيارات السياسية ، كالتيار القومي الناصري ، والتيار البعثي بشقيه ، العراقي والسوري ....

 السيد محمد الفاضل حمادوش


* المقال القادم بعنوان : الصحوة والمقاومة والممانعة 

الأربعاء، 21 مارس 2018

الريـع الـثقافـي وتعثـر الإرادة ( II )


الريـع الـثقافـي وتعثـر الإرادة 



 في أعقاب هزيمة تسعمئة وألف وسبعة وستين المدوية ، وفي الأجواء القاتمة التي ألقت بظلالها الباردة على مشاعر القيادات ، والمفكرين ، والنخب ، قبل الجماهير ، وتحت أقدام الشك المسموم ، والقاتل ، الذي شمل الساحات ، وطال كل شيئ ، وأوهن الثقة بما كان إعتقادا راسخا ، وأرخى اليقين بجدية ما حصل من مكاسب ، وما كان وعدا مؤملا ، سارعت الدوائر السياسية للتخفيف من الوطأة ، والتقليل من مفعول الفشل ، لتلافي أثره الوخيم ، فبادرت بضخ مقادير من الأمل ، لرفع الروح المعنوية ، ودفع الجماهير إلى الثبات في المواقع ، والتحصن بالخيارات ، والتماسك ، ولسان حالها يقول : ماحدث ووقع ، مجرد نكبة عابرة ، وليست فجيعة هزيمة كاسحة ، تكسر الإرادة وتخلع الأمل ، وتطال المصير ،  أو هي قدر دفعه ممتنع ، وأن هذا في حياة الأمم دارج ٌومألوف ويتجاوز ، وأن ما رتبه وسببه يستدرك ، وفي خبرة أمتنا العربية والإسلامية من هذا الكثير ، وهي كبوات وعثرات ، إن لم تكسر الظهر تقويه ، وإن أخرت الغلبة أو فوتتها فإلى حين ، وربما هي فرصة سانحة ، ووقت مستقطع ، للمراجعة والنقد ، والتزود بالتعليمات والإرشادات ، لتصحيح الأوضاع ، وتصفية وتطهير الصفوف ، وترميم المؤسسات أو إصلاحها ، وإعادة النظر في الرؤية والمنهج ، والتسيير ، والتفكير في خلق الإنسجام بينهما ، ولابد أن ذلك إما راجع إلى عمى الرؤية ، أو التخبط في التسيير ، لم يتخلف الصحفيون ، والمفكرون ، عن هذا الركب ، ولم يفوتوا هذه السانحة ، فسال حبر وسودت أوراق ، ونشطت عقول ، وإزدحمت أفكار وتزاحمت ، من مشارب شتى ، ومن خلفيات متباينة ومتعاكسة ، ليست بالضرورة متنافسة ، بل هي في أحيان كثيرة أو قليلة ، متحاربة ومتقاتلة ، ما حمل مجلة المصور على المغامرة لخوض السجال _ وهي مجلة قريبة من النظام _ حول النكبة ، فكتبت سلسلة من المقالات بعنوان « الدولة العصرية » ، في العنوان إشارة لماحة ، ربما الى من ساهم في النكسة أو النكبة : الأحادية في الرأي ، والأحادية في القيادة والشمولية ، أو إلى غياب الديمقراطية ، ودولة القانون ، والتبادل على السلطة ، والحريات الفردية والجماعية ، وفي نفس اللحظة إقتحمت الكتابات الفكرية المعاصرة ، أو المحدثة ، غليان الساحة بدون إسئذان ، فإعتلت المنصة ، لا لتذكر وتنبه ، ولا لترشد وتصوب ، بل لتشرح وتفكك ، أو لتقصف بالثقيل ، القلاع البالية والمهترئة ، ولتجرف وتكنس الأنقاض والأطلال من على الأرض ، ليتاح لها البناء والتشييد ، بنمط عصري ، والذين تقلدوا هذه المهمة ، قامات في الفكر العربي المعاصر ، منهم على سبيل المثال عبد الله العروي ، وأمثاله ، منهم من مات (رحمه الله) ، ومنهم من لايزال يرزق بنعمة الحياة ، أطال الله في عمرهم ، وكتابات أخرى، وكتاب آخرين ، حاقدون موتورون ، أعلنوا التشفي صراحة ، وإرتاحوا للهزيمة أيما إرتياح .
كانت الأحداث تترى ، ينقطع النفس في متابعتها ، رفع شعار محو آثار العدوان ، إطلاق حرب الإستنزاف ، التعويل عليها والإصرار على إستمرارها وتعميقها ، وفعلا كان لها ما أريد لها ، أرهقت العدو الإسرائيلي ، وأنهكته ، خاصة وأنه يعاني من شح العنصر البشري ، ولا يتكئ على عمق يضمن له التحمل ، ويرفده بالزاد الإستراتيجي ، والتاكتيكي ، والعجيب أن حرب الإستنزاف هذه ، لم تزل تحجب إلى الآن ، ويحرص على أن تبقى في العتمة ، لسبب رئيس ، أو لحاجة في نفس يعقوب : لإلحاق الإدانة بالرئيس جمال عبد الناصر ، ولهمز الدولة الوطنية ، ومشروع القومية العربية ، ومن وراء ذلك خنق الفكرة وقتللها ، بصورة مؤبدة ، ومصادرة نخبها ، وهذا ليس صادم ، ولامحير ، ولامتعجب منه ، طالما أن محيطها ، أو بيئتها الأكبر كانت متضايقة ، ومنزعجة ، ومتربصة ، وترى أي هذه البيئة أن مصيرها وأمنها مهدد إذا بقيت مكتوفة الأيدي ،  _وحلف بغداد شاهد على ذلك _ ، وأن رعي مصالح الكبار ، حصن وكهف لعروشها ، يلزم أن لا تمس ، وأن لايساوم عليها ، والحال هذه ، جاء موت عبد الناصر ، كالصاعقة ، ليسدل الستار على فترة نبض الحرية والإستقلال ، وحركة التنمية ، والتصنيع ، وأشياء أخرى ...... ، ولم تمض مدة حتى جاءت ثورة أكتوبر ، بقيادة السادات لتحقق نصرا مع سورية الأسد ، وجزائر بومدين ...... ، تنفس الناس الصعداء ، وهللوا ، وإستشعروا عودة الكرامة الضائعة ، لكن هذا النصر أبى أن يبقى ، ورفض أن يستقر ، وكأنه كان يبشر ، بملاحم ثورات الربيع العربي ، أو ينذر بشؤمها .
لم يلبث السادات أن أطلق شعار (دولة العلم والإيمان) ، في الشعار نية مبيتة ، إذا قرأناه سيميائيا ، بكل قحة ووقاحة ، يذهب السادات الى صلح منفردا مع إسرائيل ، مسقطا كل الحواجز : الوجودية ، والقومية ، والوطنية ، والدينية ، مستبحا العرض ، هاتكا عرف التعامل مع العدو كعدو ، فما بالك بعدو ذو خصائص معينة ومكر .
المهم أن مصر إختطفت ، ونقلت إلى مكان آخر ، أو مقابل ، ثم قلمت و شذبت ، ودجنت ، طبعا مصر كنظام ، ورجال أعمال ، وصحفيين وكتاب ، لضمائرهم دخل ، وبعقولهم دخن ، حتى ينفذ النظام إستراتيجيته بإحكام ، ويهيئ لرؤيته القبول والترحاب ، على الأقل الى حين ، وهب ، أو تصدق بحريات مدغولة ، ومن بالعفو على تيارات ، وجمعيات ، كانت محضورة ، ومناوئة للنظام ، وفي حالة صدام أو توتر دائم معه ، كالليبراليين ، والإسلاميين (الإخوان)، فأفرج هؤلاء عن نشاطهم الدعوي والتجميعي والإعلامي ، ولم يدر بخلد الناشطين ، أن النشاط مؤطر من الخلف ، ومستغل ، وموظف ، من إدارة سياسية ، حفرت له مجرى ، وعينت له قناة يصب فيها ، لايهمنا التيار الليبيرالي ، لأنه مريض ، ومغترب ، ومنبهر ، ويعاني من عقدة الإغتراب وعدمي ، يحسب أن الإرتماء في حضن الثقافة الغربية ، وقيمها ، والتمحل بإيجاد صلة جغرافية ، أو تاريخية ، وربما صلة رحم ، تربطه بما يرفعه عن الدونية ، وينتشله من صور البداوة ، والتخلف ، و «الأهلية» ، توهما وتخيلا ، ويحول بينه ، وبين جغرافيا العالم الثالث ، أو يلغي إنتماءه العربي ، أو للخيمة والجمل والصحراء ، ويفكك مركبه الإسلامي ، ولقد حكى لنا ، أو ذكرنا الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل ، في إحدى طلعاته في فضائية الجزيرة ، من خلال السلسلة الطويلة من المداخلات التي بثت في هذه المحطة التلفزيونية : أن أدباء ، ومفكرين كبار ، يصنعون الرأي ، ويخلعون المعنى على الحياة العربية ، يستقطبون الإهتمامات ، يترجمون الإنشغالات ، ويعيدون تصنيعها بتفكيرهم ، ومنطقهم ، أو بأسلوبهم ، وتجربتهم الشعورية ، في أشكال وعي قابلة للإستهلاك ، كالمقالة الفلسفية والفكرية ، وحتى الصحفية ، وأيضا الرواية ، والأقصوصة ، أو القصة القصيرة ، واللوحات الفنية ، التي تقول فكرة ، أو تجود بخاطرة وإنطباع ، وتعكس إحساسا وشعورا ، إن هؤلاء لما ينتكسون ويسقطون ، أو يتعثرون ويتكبكبون على قارعة الطريق ، يفتحون ثغرة في حصن الأمة ، لاتسد ، لأنهم يجسدون رمزا آوى الى المخيلة ، وإتخذها مسكنا دائما ، هؤلاء المفكرون والكتاب ، لما إلتقوا بهيكل ، قالو له عجبا ، أوصوه بأن يكلم عبد الناصر ، ويقول له : لاشأن لنا بالعرب وفلسطين ، نحن ننتمي الى الحضارة المتوسطية ؟! ...........

السيد محمد الفاضل حمادوش


* المقال القادم بعنوان : الصحوة والمقاومة والممانعة 

الأحد، 18 مارس 2018

هل يمكن أن نتكلم عن ريع ثقافي ( I )


هل يمكن أن نتكلم عن ريع ثقافي



 إن حضارة ما أو ( ثقافتها ) لما تستأذن في الإنصراف ، توصد أبوابها في وجه الجديد ، وتقرر دفع التغير ، ودحر التغيير ، تطوي الطموح أو تسحبه من أجندتها ، وذللك في زعم نخبها ، أو قادة الرأي فيها ، أن مسيرتها وصلت إلى التمام ، وأوضاعها وحالاتها أشرفت على الكمال ، وأرصدتها من الفكر والثقافة ، فاضت ورشحت عن الحاجة ، وحضها من المعنى وفير ، لامزيد فيه لمستزيد والمآثر والأمجاد التي وفقت لصنعها في الماضي ، وكانت عزها ، وأغنية فخرها ، ومحل دلها ، وعنوان شخصيتها ، لم ينل منها الزمن ، فهي لم تزل تتمتع بحضور قوي ، وتأثير كاسح ، ونفوذ مشل للحركة ، معيق للتفكير ، ناف للنقد ، ملغ لحسه ، فلم يستفزها التفاوت التاريخي ، ولم يهمزها الصراع المحموم ، ولا التحدي الهائل ، لم تستشعر التناقضات التي تخرب كيانها الداخلي ، وتمزق أوصالها ، ولم يلتفت عقلها ، أو قواها النبيلة الى سجال الفكر ، وتنافس الثقافات ، ولم يصخ الى جدل الواقع ، تشرنقت ولم تدر أنها لم تعد تتحكم في الواقع وتضبطه ، فهي تلهث وراءه ، أو تسحب من خلفه ، والحال هذه أين لها من إحتجاز بقعة آمنة في هذا الواقع المحدودب ، أو المسنن ، والهائج ؟ ، وهل يستوي لها الواقع ويطاوعها بالتكيف المخفف للكلفة على الأقل ؟!، وهل تطمع أو تمد عيناها ، الى أكثر من إستقرار متواضع ، ومحتشم  ؟! يوفر لها عيش متقشف ، في واقع مهتز ومتموج ، وحتى هذا العطاء الشحيح ينال بالمن ؟! ويتناول من متعالي متفضل شرس ؟! .
إن  فترات زمنية قد تطول ، وقد تقصر ، تناوبت وتداولت على أمة هذه الحضارة ، فترة ، فترة ، حضها من كل فترة بحسب إستعدادها وقابليتها ، قد تكون هذه المدة أو البرهة ، باردة الإستعداد ، منطفئة الحماسة ، منسحبة من ساحة الفعل ، مستدبرة من منصة التفكير ، أو متبرمة لكل ما فيه مشقة ، تتحاشى الصدارة وتفر من التصدي والمجابهة ، لا تكترث بالوضوح والصراحة ، ولاتعمد الى التغلغل في تلافيف الفكر ، وشعب الواقع ، أو أن نخبها غدت تعاف هذا الصنيع ، لتعثر على منابت المشاكل ، والأزمات ، وأسباب كونها وعوامل تفاقمها ، لعطل ما في طويتها أو في دخيلتها ، شدت إلى الأعراض ، وإنكفأت على السطوح فهي تنزلق عليها ، التكرار والإجترار أخذا بتلابيبها ، أو بمجامع ثوبها ، والسهولة والبساطة أقعدتاها، وأسجنتاها في قوقعة ، أحيانا تمر بها تيارات أو تضربها ، فتستفيق وتنهض وتكسر الجمود والتكلس ، وتنفض الغبار ، وتفرك عيناها ، وتتململ ، وتشرع في التعرف على نفسها ، تستعيد ماضيها ، وتنشط ذاكرتها ومخيلتها ، تتلمس مواهبها وملكاتها ، ومقدراتها ، حينئذ تسري فيها الحيوية ، وتدب فيها الحركة ، فتنتعش دوافعها ، وتشخص محفزاتها ، أين إنداح الأمل وأينع الطموح ، وإنجلت الغيوم عن الآفاق ، وأضحى المعنى ، قوتا ، ووقودا ، ووشاحا للحركة وللحياة وللوجود ، ولكن بين مبدأ هذا النشاط وإنتهاؤه أو إنصرافه وإنقضاؤه ، من فرط قصره يكاد يكون رعشة ، كرعشة الموت ، أو الموات ، إلى ما يرجع هذا ؟ ، أو بما يفسر أو يؤول ؟ لعل أوجه كثير تبرز أمامنا ، أو تنكشف ، كل وجه يحيل الى صعيد من الصعد ، أو الى حقل من الحقول ، أو الى عقدة من العقد ، أو كابح من الكوابح .
وعليه فإن حجم الإشكالية وطبيعتها ، لا تسمح عناصرها بالمعالجة والفهم منفردة فضلا عن الحل ، ولكنها مجتمعة ، أو في وضع تركيبها ، وحالة نسيجها تطاوع على الفهم والمعالجة ، وتنزع نحو الحل ، لذا لم يكتب لكثير من الحركات السياسية ، التي استوت أحزابا سياسية من العيار الثقيل ، أو أنظمة في الحكم تمكنت من إمضاء أجندتها ، والإفراج عن برامجها ، وإطلاق شعارات مغرية وجذابة ، وبناء إيديولوجيا نافذة وغلابة _  لاأقول لم تنجح لكن توقفت في منتصف الطريق ، أو لم تنجز كل ما وعدت_   وهنا لم يكن من شأن المجتمعات ، وغالبية الجماهير، غير الإستجابة والتلبية والمباركة ، والإندراج في التجييش والتحشيد ، ومحض التأييد للقيادة ، والإلتفاف حولها ، من غير أن تطلب حسابا من السلطة ، أو تحاسبها على شرعيتها ، صحيح أن المشروع إستثناي وواعد ، وأن مشروعيته جزء من ماهيته ، أو هو لحمته وسداه : التنمية ، الصحة ، التعليم ، العدالة ، المساواة ، تكافؤ الفرص ، تحرير فلسطين ، عدم الإنحياز أو الحياد الإيجابي ، مساندة حركات التحرر ، الوقوف بالمرصاد ضد الإستغلال ، والإحتكار ونهب ثروات الشعوب ومقدراتها، وإعطاء أهمية قصوى لإستقلال القرار السياسي ، وتوسل التكافؤ والندية في علاقاتها أو صميم إرتباطاتها ، لا شك أن النجاح حالفها نسبيا في هذه الأمور ، إلا أن ما يؤخذ عليها أو يوجه لها من ملاحظات أنها تنكبت الصواب في مراعاة حساسية الجمهور ، العقائدية، وأخطأت في التعامل مع مخيلته ، والآداب والفنون شاهدة على ذلك ، وخاصة القصة والسنما ، في الوقت الذي كانت مقتلها أو المؤذن بإندثارها،  كانت في نفس الوقت قوتها الناعمة ، وسلاحها الحريري ، الذي مكن لنفاذها ، في قلوب جماهير الأمة العربية والإسلامية .....


السيد محمد الفاضل حمادوش 

·       المقال القادم بعنوان : الصحوة والمقاومة والممانعة

الريـع الـثقافـي والمدرسة الإصلاحية ( III )

الريـع الـثقافـي والمدرسة الإصلاحية   من المعلوم أن العالم العربي والإسلامي ، كان يرد على التحديات ، بما في جعبته من أفكا...